إبحث

18 يونيو 2012

٣٠ يناير مقابل ٣٠ يونيو



شاب يتحدّى الشرطة في تظاهرات جمعة لَحْس الكُوع
منطقة شمبات، شمال الخرطوم، 29 يونيو 2012م، تصوير: مهدي عمر

٣٠ يناير مقابل ٣٠ يونيو
حُرّيتنا في مواجهة الطغيان الشامل

::::::::::

تحل علينا بعد عشرة أيام من اليوم ذكرى 30 يونيو المشؤومة، وهي ذكرى إستيلاء حزب الجبهة القومية الإسلامية على السلطة في 1989م بالإنقلاب العسكري على النظام الديمقراطي القائم حينها في السودان.
ليس هذا في حد ذاته هو – فقط - مصدر شؤمنا، بل أيضاً تبعاته المتمثلة أساساً في تغير اسلوب حياتنا كسودانيين، فنحن لم نعد كما كنّا قبل 30 يونيو، تغيرت حياتنا تغيراً قسرياً واصبحنا الآن لا نعرف من نحن بالضبط!
وهو أمر قاس وعميق يتجاوز مجرد التوصيفات السياسية لما حدث.


فبعد حوالى ربع قرن من الحكم الشمولي ذو الطبيعة الدينية المتطرفة، اصبح كل شئ مشوشاً أمامنا، لم نعد نأكل ونشرب كما كنا، لم نعد نتكلّم كما كنّا، لم نعد نلبس كما كنا، لم نعد نفرح كما كنا، وحتى الأحزان ... تغيرت طريقتنا في التعبير عن أحزاننا.

كل شئ اصبح يتم وفق اسلوب حياة جديد "حضاري" صممته وفرضته جماعة معزولة ومتطرفة اسمها "الجبهة القومية الإسلامية"، كان يتزعمها حينئذٍ رجل دين ديماجوجي هو حسن الترابي، ويتزعمها الآن عسكري مجنون اسمه عمر البشير. ولا أدري ايهما أسوأ من الآخر، فكل شئ اصبح مشوشاً كما ذكرت. فالآن الترابي يتزعم تحالفاً للمعارضة وينادي بالديمقراطية و"إطلاق الحريات" !!


حسن الترابي
إن الإسلاميين كانوا دائماً يظنون أنهم بعد حكم شمولي ممنهج - استخدمت فيه الآلة الإعلامية للدولة ومناهج التعليم المختارة بدهاء لتوجيه الأطفال في المدارس بالإضافة لإغراءات السلطة المطلقة لشباب يافعين - انهم استطاعوا أن يصنعوا جيلاً من الشباب السودانيين يخصهم وحدهم - وهو صحيح الى حد ما بالنظر إلى ما حدث في الحرب الأهلية في الجنوب التي استخدم الإسلاميون فيها "خيرة شباب هذا الوطن" كوقود حي عبر بيعهم أوهام الجنة والخلود – وقد كان كوادر الحركة الإسلامية في الجامعات يتباهون بالحشود الغوغائية المصطنعة التي يجمعونها من الشباب اليافعين لتبايع الترابي على الموت في سبيل الدين، كانوا يسمون تلك الحشود "جيل الإنقاذ".

أنا نشأت وترعرعت تحت ظل حكم الجبهة الإسلامية، وكنت أقول دائماً اثناء مناقشاتنا السياسية الحامية في الجامعة، أننا فعلاً "جيل إنقاذ"، وسيقع على عاتقنا إنقاذ هذا الوطن واستعادته من قبضة مختطفيه. وفي مرحلة ما سيخرج هذا الجيل من الشباب بحثاً عن حريته المفقودة ومستقبله المصادر، فالحرية هى قدرنا في النهاية.

لقد نسي الإسلاميون أنهم لم يقدموا لنا الشئ الوحيد المهم الذي نحتاجه: مشروعاً للحياة والحرية.
لم يتيحوا لنا فرصة الحلم بغدٍ أفضل. أرادوا أن يجعلونا مثلهم، مجموعة من الأسرى لماضٍ مخيف ليس فيه سوى العزلة والموت بدون شرف.
أقول للذين يقولون أن الثورة في السودان قد تأخرت: إن الثورة في السودان لم تتوقف يوماً واحداً منذ 30 يونيو الأول؛
شهداء الحركة الطلابية، شهداء الحركة النقابية، شهداء مجزرة بورتسودان، شهداء كجبار والمناصير، ضحايا "تطهير" الخدمة المدنية، ضحايا الإبادة في دارفور، ضحايا الإبادة الجديدة في النيل الأزرق وجنوب كردفان، ومن قبلهم ضحايا الحرب الدينية في جنوب السودان ...
جميع هؤلاء يشهدون على ذلك،
وما زال شعبنا صامداً ...


شاب آخر يتحدى الشرطة في جمعة لحس الكوع
منطقة شمبات، 29 يونيو 2012م، تصوير: مهدي عمر

هذا النظام فاقد للسبب الرئيسي للحياة منذ ولادته: الشرعية الديمقراطية. لذلك فإن التوصيف الدقيق للحالة هو أن: إعلان وفاته قد تأخر بعض الشئ، وليست الثورة.
عندما أُعتُقلت في إنتفاضة 30 يناير 2011م مع زملائي في الحزب الليبرالي ورفاق النضال والموقف من شباب الأحزاب الأخرى والشباب غير المتحزبين الذين جمعتنا بهم التكنولوجيا الجديدة، لن انسى ما قاله لي أحد ضباط جهاز الأمن أثناء وجودي في مكتبه لعمل إجراءات خروجي: 
"يا ناس ليبيريا (كان هذا هو اسم السخرية من الليبراليين في المعتقل) طلع موضوعكم فشنك. نحن عاملين استعداد ميه الميه. وطيارة الريس جرينا جهزناها. قايلين في رجال حتجي تمسك البلد دي. القصة في النهاية اتاريها فيسبوك وحركات شفع ساي"

أعتقد أنه كان محقاً فيما يتعلّق بـ "طيارة الريس"، أجد نفسي في ميل لتصديقه، ربما بسبب الصورة الذهنية التي في مخيلتي عن عمر البشير من أنه شخص ضعيف وأول شئ يمكن أن يفكر فيه سيكون هو الهروب. فدعونا نختبر رباطة جأشه في كل مرة.

أقول لنفسي مراراً أنني من القلائل المحظوظين لأنني أحظى بفتاة جميلة تحبني، ونرغب في الزواج من بعضنا، وهذا ما يجعلني أفكر بطريقة مختلفة، يجعلني أفكر في "الكرامة الإجتماعية" اكثر من السابق، كيف يمكننا أن نؤسس سوياً أسرة وحياة كريمة ونحن انفسنا فاقدين للحرية والكرامة في ظل "المجتمع الحضاري" ؟

يجعلني هذا افكر في أبنائي المفترضين، كيف سينظرون إلي أبيهم بعد عمر طويل عندما يعلموا انه لم يحرّك ساكناً بما يكفي من أجلهم ومن أجل مستقبلهم، وقذف بهم للحياة في مواجهة مصير غامض؟ أكثر من ذلك وقبله: هل يا ترى يمكن للحب ان يظل مشتعلاً ؟ أو هل تبقّى هناك اى معنىً للحب، إذ لا حرية ؟

يجب ان نعي جميعاً أن أدق تفاصيل حياتنا المعاصرة باتت ترتبط بمستوى او بآخر بماهية نظامنا السياسي، بطبيعة علاقتنا به وقدرتنا على إتخاذ موقف منه.

يمثل 30 يونيو القادم تحدٍ كبير لحقنا كسودانيين في حياة حرة كريمة، وفي مستقبل واعد لأطفالنا.


من ملصقات 30 يناير
كتبتُ مرةً أن 30 يناير 2011م كان لحظة تاريخية فارقة، وليست مجرّد إحتجاجات معزولة هنا وهناك، أطلقها شباب متحمسون. فلم يجمعنا في ذلك اليوم غير الرغبة الجامحة في الحرية، ولم يوحدنا غير حاجتنا الملحّة للتغيير.
وتكمن اللحظة الفارقة في أن الذين خرجوا إلى الشوارع من الجامعات وفي الأحياء والمدن هم "جيل الإنقاذ" نفسه، هم ذاتهم الذين غُسلت أدمغتهم بالمناهج التعليمية الموجهة، وهم ذاتهم الذين أُجبروا على التدريب في معسكرات الدفاع الشعبي.

لنستلهم 30 يناير المجيد، ولنجعل من هذا الشهر "يونيو الأخير"
لا تسمحوا للمرجفين في المدينة أن يحدثوكم عن أهمية البديل، ولا تسمحوا لهم أن يحدثوكم عن احتمالات الفوضى والإنفلات الأمني.





معاً، يدٌ واحدة لإستعادة وطننا المختطف.
إن الشئ الوحيد الذي يجب أن نخافه، هو الخوف نفسه.
والشئ الوحيد الذي سنخسره هو أغلالنا.
ولنتذكر دائماً: "مستقبلنا في حريتنا".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكتب تعليقك أدناه