إبحث

26 ديسمبر 2012

عن الهاوية المالية الأمريكية



ما أن إنتهت إنتخابات الرئاسة الأمريكية في بداية نوفمبر الفائت، حتى حوّل الجميع إنتباههم إلى الأزمة المالية الأمريكية مرة أخرى، فبعد أزمة 2008م، تواجه الولايات المتحدة أزمة مالية أخرى محتملة مع بداية العام المقبل، هذه المرة تعتمد شدّة الأزمة على إمكانية التوصل إلى إتفاق سياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. 

وهنا يبرز مصطلح "الهاوية المالية" أو "المنحدر المالي" الذي يتم تناوله بشكل مكثّف في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي لتوصيف الوضع في الولايات المتحّدة. فما الذي يعنيه ؟ 


خلفية المصطلح
يستخدم مصطلح "الهاوية المالية" لوصف الوضع الذي ستواجهه الولايات المتحدة عندما تنتهي – مع نهاية هذا العام - صلاحية عدد من السياسات الضريبية لتدخل سياسات جديدة حيّز التنفيذ. 

وهي حزمة سياسات فيدرالية جذرية ستؤدي إلى خفض العجز في الميزانية الأمريكية في فترة قصيرة بمقدار أكثر من 500 بليون دولار حسب توقعات مكتب الميزانية بالكونغرس CBO، وهو رقم كبير يمثل حوالي 4% من الناتج الإجمالي المحلّي للولايات المتحدة. 

وقد استخدم مصطلح "هاوية مالية" أول مرّة بهذا المعنى عند قرب الإنتهاء الأول لسريان قوانين الإعفاءات الضريبية في حقبة بوش في 2010م، واستخدمه بِن بيرنانكي رئيس الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي في سياق التنبيه للأزمة المالية الحالية في فبراير 2012م. 

ويعتبر خفض العجز بهذه النسبة في فترة قصيرة أمر خطير قد يقود إلى الدخول في دورة ركود مزدوج double-dip recession ستؤثر على الاقتصاد الأمريكي الذي لا يزال هشّاً ولم يكتمل تعافيه بعد، وتؤدي إلى تباطؤ النمو وارتفاع نسبة البطالة إذا لم يتوصّل الحزبان الديمقراطي والجمهوري لاتفاق قبل ذلك. 

كيف بدأ الأمر ؟ 
في عام 2011م توصّل المشرّعون من الحزبين إلى اتفاق على رفع سقف الدين في سياق المحاولات المرهقة لتفادي آثار الأزمة المالية لعام 2008م، وبناءً عليه وقّع أوباما على قانون التحكّم في الميزانية Budget Control Act لعام 2011م الذي يقضي برفع السقف العام للدين الأمريكي مقابل خفض العجز في الميزانية بمقدار 2.4 تريليون دولار خلا 10 أعوام منها 1.2 تريليون دولار عبارة عن خفض في الإنفاق الحكومي تم تحديدها في القانون بالإضافة إلى 1.2 تريليون أخرى يتم الاتفاق عليها من خلال اللجنة المشتركة للحزبين المكونة من نواب وسيناتورات ديمقراطيين وجمهوريين، وفي حال فشلت اللجنة في التوصل إلى اتفاق – كما هو الحال حتى الآن – فإن القانون يتضمن آلية تنفيذ تلقائية ستنطلق مع بداية العام الجديد وتتضمن تخفيضات في الإنفاق الحكومي بنسبة 10% في كل المجالات تقريباً. 

وهكذا، فالهاوية المالية هي من نواحٍ عديدة نتيجة لسلسلة من المواجهات الأيدلوجية المثيرة للجدل على نحو متزايد بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على مدى السنوات القليلة الماضية. أشهر هذه المواجهات كانت معركة سقف الدين في اغسطس 2011م والتي أثّرت في قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها وإلى خفض غير مسبوق في التصنيف الائتماني الأمريكي من مؤسسة ستاندردز آند بوورز

الطريق إلى الهاوية المالية

ما هي مكوّنات الهاوية المالية ؟ 
تتشكّل الهاوية المالية من مجموعة قوانين وإجراءات مرتبطة أساساً بسياسات مالية ضريبية من المفترض أن ينتهي بعضها مع نهاية العام الحالي 2012م، ويدخل البعض الاخر حيّز التنفيذ تلقائياً مع بداية العام القادم 2013م. 

أ. السياسات التي ستنتهي صلاحيتها مع نهاية العام:
- سلسلة من التشريعات التي تعرف بـ "إعفاءات بوش الضريبية" كان قد مدّدها أوباما وتنتهي بنهاية هذا العام لترفع المعدلات العامّة للضرائب، لا سيّما ضرائب العقارات وأرباح رأس المال. 

- كجزء من المساومة على تمديد "إعفاءات بوش" نجح أوباما في تضمين إعفاء الضمان الاجتماعي على المرتبات، ما من شأنه أن يُسقط الضريبة الفردية الموحّدة ويسمح للعمّال بإدّخار نسبة أكبر من مرتباتهم. 

- الضريبة الدنيا البديلة التي وضعت أساساً للتأكد من أن الأثرياء - الذين بإمكانهم خفض إلتزاماتهم الضريبية عبر الخصومات والإستثناءات والإعتمادات الإئتمانية - لا يزالون يدفعون الحد الأدني من الضرائب. 

- التمديدات الضريبية التي صُمّمت لتوفّر إعفاءات مؤقتة لتشجيع مجالات محددة مثل: الشركات التي تعمل في مجال التنمية والبحوث والتجارب العلمية، المصنّعين والمنتجين السينمائيين والتلفزيونيين، شركات البترول والغاز والوقود البديل. 

ب. السياسات التي ستدخل حيّز التنفيذ ابتداءً من يوم 1 يناير 2013م، وهي عبارة عن حزمة ضرائب مرتبطة بخطة أوباما لإصلاح الرعاية الصحّية:
- ضرائب مبيعات صناعة الأجهزة الطبية على المصنّعين والمنتجين والمستوردين، ما عدا صناعة الأجهزة التي – في الغالب – تباع بالتجزئة للإستخدام الفردي، مثل: النظارات الطبية والعدسات اللاصقة واجهزة المساعدة على السمع، ... إلخ. 

- زيادة ضرائب الرعاية الطبية للمسنين على ذوي الدخل المرتفع الذين يوفّرون أكثر من 250.000 دولار في العام كدخل فردي صافي. 

- زيادة ضرائب أرباح رأس المال طويل الأجل ومشتقاته. 

- زيادة بعض الخصومات التفصيلية لصالح نفقات التعويض في الرعاية الطبية على معظم دافعي الضرائب. 

- زيادة سنوية 2.500 دولار ستفرض على حسابات الإنفاق المرنة. 

الجدير بالذكر هنا أن انطلاق الإجراءات التلقائية دون اتفاق سيضر بالطرفين على المستوى السياسي لأن الإنفاق الحكومي على الأجهزة الفيدرالية سيتم تخفيضه جملةً بمقدار 110 بليون دولار سنوياً حتى يتم سد العجز الناتج عن سقف الدين المرتفع، نصفها سيكون نتاج خفض الإنفاق على قطاع الدفاع وحده وهو ما لا يريده الجمهوريون، والنصف الآخر سيشمل تخفيضات في الإنفاق على قطاعات غير دفاعية مثل الرعاية الصحية وهو ما لا يريده الديمقراطيون. 

لذلك فإن معظم النقاد يعتقدون أن عدم وجود اتفاق شامل حول خفض العجز – يتناول الحاجة إلى إصلاحات كبيرة في نظام الاستحقاقات الضريبية – هو ما دفع باتجاه استخدام التمديدات قصيرة المدى - مثل ما حدث في تمديد قانون إصلاح مخصصّات الأطباء Doc Fix - إستخداماً سياسياً ذرائعياً. 

جون بوينر وباراك اوباما يمثّلان الجدل حول الهاوية المالية
إنقسام آيدولوجي 
وبطبيعة الحال فإن العلاقة بين الضرائب ودور الحكومة تقع في مركز الجدل، فالجمهوريون بصفة عامّة يفضلون خفض الإنفاق كأمر أساسي لخفض العجز في الميزانية، وهم دائماً يعارضون أي زيادة في الضرائب بإعتبار أن خفض الضرائب يعزز النمو الإقتصادي، ومن ثم، الإيرادات الحكومية. 

وبالمقابل يعتقد الديمقراطيون بصفة عامّة أن زيادة الضرائب على الأثرياء يجب أن تكون جزءاً من أي صفقة لتغطية ثغرات استحقاقات خفض الإنفاق على المدى الطويل، وهم يدعمون تخفيضات أكبر في ميزانية الدفاع تحديداً. 

هذا الانقسام الآيدولوجي يظهر بوضوح في النقاش حول موضوع الهاوية المالية، وبالأخص ينقسم الحزبان حول كيفية تمديد ما يعرف بإعفاءات بوش، وهي المكوّن الأكبر من مكوّنات الهاوية المالية. 

الجمهوريون يدعمون تمديد جميع التخفيضات الضريبية لحقبة بوش، بينما يصر معظم الديمقراطيون بقيادة أوباما على إستثناء الإعفاءات على نسبة الـ 2% الأكثر ثراءً من دافعي الضرائب. 

عدد من الزعماء الجمهوريون ذكروا أنهم على استعداد لقبول المزيد من الإيرادات الحكومية عبر إستقطاعات ضريبية محدودة لتغطية الثغرات المالية، لكنهم شدّدوا على أنهم ليسوا منفتحين على زيادة معدلات الضرائب الفردية. 

على أي حال فإن بعض المحلّلين يتوقعون أن الرسالة التي بعثت بها مجموعة بيزنس راوند تيبل إلى الكونغرس قد توفّر بعض الغطاء السياسي للجمهوريين في هذا الموضوع. مجموعة بيزنس راوند تيبل هي تحالف ذو ميول محافظة يتكون من مدراء تنفيذيين لشركات تقع ضمن التصنيف السنوي لمجلة فورتشن Fortune لأكبر 500 شركة أمريكية. 


كيف سيستجيب الدولار ؟
يتوقع عدد من المحللّين الماليين أن استجابة الدولار للهاوية المالية ستكون سلبية في ظروف التعافي الإقتصادي الهش الذي تمر به الولايات المتحدة، وقد يفقد الدولار حوالى 20% من قيمته قبل أن يستقر مرة اخرى. وهو أمر قد تكون خطورته على الأسواق المالية العالمية اكبر مما هو متوقع رغم أنه لن يبلغ مدى ما حدث في أزمة الرهن العقاري 2008م. 

توقعات الأسبوع الأخير 
بالرغم أن تنازلات كبيرة من احد الطرفين لا تزال محل شكك في ظل الدورة العرجاء lame-duck session الحالية بالكونغرس، إلا أن المحلّلين بصفة عامة يعتقدون أن إمكانية التوصل لإتفاق بين الحزبين ما زالت ممكنة لتمرير تشريعات توفّق بين الآليات قصيرة المدى المهمة لإستمرارية دعم إجراءات التعافي الإقتصادي، والآليات المتوسطة وطويلة المدى التي من شأنها موازنة الميزانية وخفض سقف الدين. 

وقد أعلن كل من الرئيس اوباما ورئيس مجلس النواب جون بوينر أكثر من مرة عن إمكانية التوصل لإتفاق يرضي الطرفين ويبدد مخاوف الأمريكيين.


Sources:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكتب تعليقك أدناه