إبحث

23 نوفمبر 2011

اللّه مع حنانك يا صديق ...

شاطيء البحر الأحمر، بورتسودان، نوفمبر 2008م


الساعة الواحدة فجراً
24 نوفمبر 2010م

ماذا كنت أفعل حينها؟ 

لا أذكر شيئاً مهماً. كنت على غير عادتي عند التعطل أسهر أمام شاشة اللابتوب أتجول في ثنايا العالم الافتراضي بلا هدف، ففي العادة لا أستطيع الجلوس لفترة طويلة أمام شاشة الكمبيوتر مثلما لا أقوى على التحدث لفترة طويلة على الموبايل.


وعند الواحدة والنصف لاحظت في حائط صفحتي الشخصية على فيسبوك تعليق ملصوق من صديقي محمد ود النيل بتاريخ اليوم السابق:
 "يأيها الرنتيسي حضرنا الخرطوم ولم يتسنّ لنا لقائكم، ونحن بأذن الله غداً الي البورت عائدون.. الله مع حنانك يا كلب"
(يفضل محمّد دائماً أن يناديني بلقب "الرنتيسي" الذي أُطلق عليّ أول مرّة إبان عضويتي في حركة حق)
وقد كانت الخاتمة المفضلة بيننا في نهاية أي حوار هي: "الله مع حنانك يا كلب". ولـ "كلب" هذه حكاية ...

أحد المحاضرين عندنا في كلية الهندسة بالجامعة الإسلامية كان يقولها عندما يشتد به الغضب من لا مبالاة الطلاب به، وهو الطيّب المسالم في العادة، لا يهتم بإجراءات النظام والعقاب المعتادة من قبل المحاضرين الآخرين، لكنه عندما يشعر بأن الطلاب "كتّروها شوية" .. يصرخ فجأةً: "احترم نفسك يا كاااااااااااالب" .. ويحرك رأسه يُمنة ويُسرة كمن يبحث عن مصدر الهرجلة في حركة كوميدية مفاجئة تجعل جميع الحاضرين ينفجرون في ضحك مكتوم. ثم يشير بيده إلى اتجاه عشوائي فى القاعة ويضيف مع مزيد من الصراخ: "إنت هناك .. أطلع براااااااا".
وأول طالب يتوهم أنه هو المقصود: "أنا يا دكتور؟" ..
يصبح فعلاً هو المقصود، ولا سبيل من بعد للتراجع فيضيف المحاضر وقد جحظت عيناه: "أيوه إنت. شايف كلب غيرك هنا ؟"

وتأتى الخاتمة غير المبررة اثناء مغادر ة الطالب المسكين للقاعة ..
فيصرخ الدكتور مره أخيره: "يلّا .. الله مع حنانك يا كااااااالب"

حكيت هذه القصة لمحمد أول مرة كي أُبرهن له أن الجامعة الإسلامية بلوة وقد ابتلينا بها، فقد كان يدرس بكلية الصيدلة بالجامعة الإسلامية أيضاً .. لكنه كعادته في كل شيء .. يلتقط مكمن الضحكة ويجعلك تبتسم في أحلك المواقف.

كانت تلك أيام خضراء بصحبته، أيام متخمة بحلاوة الحياة وحماس بداية العشرينات، ولعلني لم أدرك ذلك إلاّ الآن، فقد كنت مستاءً من الجامعة الإسلامية منذ البداية.

سوق السمك، بورتسودان، نوفمبر 2008م

 تمعّنت في البوست بغيظ .. شعرت أنى خذلته ..
فقد اتصل بي في أول أيام عيد الأضحى الفائت ..

- ألو ..
- وين يا مان ..
- ألو ..
- أيوه يا محمد سامعك ..
- ألو ..
- يا محمد بطّل عباطه .. إنت جيت الخرطوم ولا لسّه ؟ ..
- ألو ..

وبعد تحانيس وإستسماح وبعد أن ضحك ضحكته المشهورة أقنعته
أن يواصل المكالمة بدون "ألو" .. كان هذا جزء من شخصيته المرحة بطبيعتها ..

ومن مكالماته المشهورة والمحبوبة بين الشباب تلك التي تجري بينه وبين صديقنا عُمر فيفتي أو "عُمر خمسين" كما كان يصر محمد على تسميته ..

كان كلّما يتّصل عليه عُمر يفتح محمّد الخط مردّداً:
" 73، 74، 75، 76 " وهكذا ...

وعندما نكون مجموعة ننصت جميعنا لنعرف أين وقف العَدْ بين فيفتى وود النيل آخر مرّة ونستمتع بالمغالطة التي تنشأ حول الرقم الصحيح، وهل تعدّى المئة أخيراً أم لا؟

كان هذا هو "الطفل" الذى استطاع محمد أن يحتفظ به ويحمله في داخله طوال حياته ... وقد كنت – وما زلت – أحسده عليه.

-       أيوا أنا في الخرطوم .. إنت وين؟
-       أبو حليمه ..
-      طيب ألله مع حنانك ..
-       ليه ؟؟
-      أبو حليمه بتاعت ماذا يا صديق .. أنا الأيام دي ما سايق ..
-       والله يا محمد أنا برضو حركتي صعبة وفي فلس حاصل .. لكن خامس يوم حَطْلع وبتّصل عليك ..
-       خير يا مان .. رشيدة كيف؟
-      رشيدة تماااااام .. وقالت ليك عزومتك عزومة مراكبية ..
-       ضاحكاً: شايفك جِبت ناس أمّك وسكّنتهم جمبها
-       يا زول خلّينا في العزومة ما تزوغ ..
-       المرة الفاتت عزمتكم إنت عملت حركات .. تاني خلاص الله مع حنانك

.......

طال الحديث وتشعّبت نكاته وخستكاته لكننا اتفقنا على التلاقي قبل عودته إلى بورتسودان. ولم أتمكن من الاتصال به حتى قرأت رسالته الملصوقة على حائطي في فيسبوك، وقد كتبت تعلّيقاً على نفس البوست: "وإنا لفراقكم يا ود النيل محزونون .. كان الله في حنانك يا كلب"
!!!

الساعة الآن الثامنة صباحاً ...
رنين جرس الموبايل يستمر بإلحاح ...
 فتحت الخط بين صاحي ونايم:

- صباح الخير يا مودى ..
- #@$%&#@$
- شنو؟
- #@$%&#@$
- ...
- نتلاقى في المشرحة يا عزيز..

(...)
ما هذا ؟
ما الذي يحدث ؟

سارعت إلى مشرحة مستشفى الخرطوم
لا شيء في ذهني سوى أمر واحد: لقائنا المتفق عليه.

وقد التقيته.
ووجدته كما هو،
وكما يحب أن يكون دائماً،
جميل وأنيق،
كما النيل.
---------------

وفقاً لأكثر الروايات صِحّة فإن صديقي الظريف اللطيف محمد عبد الله ود النيل قد فارق حياتنا هذه في الفترة ما بين الساعة العاشرة مساء يوم 23 نوفمبر 2010م والواحدة صباح يوم 24 نوفمبر 2010م إثر حادث مروري في طريق بورتسودان - عطبرة. أصيب في الحادث أيضاً صديقي أبو بكر عبد الكريم وفقد اثنين من إخوانه. في هذه الأثناء يكون قد مر على غياب محمّد عام كامل. إنني افتقده بشدّة.

هناك 3 تعليقات:

أكتب تعليقك أدناه